المقالات

رسالة سماحة العلامة المهتدي إلى المرجع الربّاني السيد صادق الشيرازي

مكتب العلامة المهتدي ينشر رسالة سماحته إلى المرجع الربّاني السيد صادق الشيرازي
 
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الفقيه الربّاني.. المرجع الحسيني.. سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي. دام ظله العالي.
السلام عليكم سيّدي ورحمة الله وبركاته..
عظّم اللهُ أجورَكم في مصابِ جدِّكم أبي عبدالله الحسين سيّد الشهداء (عليه السلام).
 
وأما بعد:
أسأل الله لكم دوام الصحة ومزيداً من التوفيق والنجاح في جميع ما تقدّمونه للإسلام والمسلمين والبشرية من عطاءٍ فكريٍ متميّز في مجال الفقه والعقائد والأخلاق والولائيات والقضايا الإجتماعية والمواقف السياسية حسب الحاجة والضرورة ومقتضيات الحكمة.. ومن دعمٍ متواصلٍ للشعائر الحسينية وبيان الأصيل منها وطرد الدخيل عليها.. ومن مواقف الدفاع عن المظلومين ومساندتكم للمشاريع الخيرية والإعلام الديني…
 
أشكركم سيّدي على ألطافكم التي حظيتُ بها قبل رحيل شقيقكم المرجع الموسوعي المجدّد وبعده، وهذا لساني مثلُ مِدادي عاجزٌ عن الشكر فكيف بعملي وهو الأعجز…
 
سيّدي.. أشكركم على تفضّلكم ساعةً وعشر دقائق من وقتكم الثمين في اليوم الثاني من شهر محرّم الحرام هذا العام.. ذلك رغم تعبكم وكثرة مسؤولياتكم.. وقد كان لاهتمامكم هذا عميقُ المعاني المُلهِمة لي.
 
كنتم سيّدي ولازلتم السَّنَد والمُعتمَد، إليكم نعود وبكم ننطلق ومن علمِكم وإخلاصِكم وروحِكم نستمد نورَ العلم وصفاءَ الإخلاص وروحَ الإستقامة..
 
سيّدي المفدّى لقد منحتموني خلال هذا اللقاء الكثير من رؤاكم الأصيلة التي عهدناها في مدرستكم الرسالية ذات الجذور الراسية.
 
عرفتُكم سيّدي منذ عقودٍ وأنتم القمّة في العلم والتقوى والأخلاق ومن المجتهدين القلائل الذين فتحوا قُلَلَ الصواب بحكمتهم حينما زَهَدوا في الدنيا ولم يرضوا بغير ما لله فيه رضا وما للعباد فيه نفعٌ وخيرٌ وهُدى..
 
ساعةً وعشر دقائق دار الحديثُ مُفصَّلاً بين التلميذ وأستاذه حول قضايا عديدة كانت غايةً في الأهمية، من فقهيةٍ وسياسية، ومن عائليةٍ واجتماعية، ومن إداريةٍ وإعلامية، ومن خلافات الساحة الداخلية والخارجية، ومن قضايا لا يصحّ لي الإفصاح عنها!!
 
سيّدي أيها الشيرازي الشامخ كالطود الرفيع.. لقد علّمتنا مدرستُكم المباركة سبيلَ الرشد والإعتدال وتعلّمنا منكُم الورع والأخلاق ونُبلَ الفِعال…
 
ما أروع أجوبتكم على أسألتي، وأما سعة صدركم لنقدي على بعض الأداء الإداري في جماعتنا فكانت هي الرائعة الأخرى من ذلك المرجع الأب الذي زَرَعَ في محبّيه المخلصين قيمة الحرية وشجاعة الكلمة الصادقة..
 
سألتُكم عن وضع الأمة ومآسي الشيعة.. فابتسمتم إبتسامة الواثقين وقلتم إنها مخاضٌ لولادةٍ جديدة، فلابد من الصبر على الثمن!!
 
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
 
سألتُكم عن رأيكم في أسلوب الفحش والبذاءة ضد مَن يختلفون معكم؟
فبهدوئكم المعروف قلتم لي:
شيخنا أنت تعرفني منذ عقود ليس هذا أسلوبي…
 
فتذكّرتُ فوراً قول ربّنا تعالى وأنتم مثالٌ له:
 
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
 
وسألتكم عن أسبوع البراءة.. فقلتم لستُ أنا مُخترِعاً له ولا الداعي إليه. نعم نحن ندعو للبراءة من أعداء محمد وآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) بشكلها الكلّي كما في القرآن الكريم والروايات الشريفة، فإذا أخذها أحدٌ من المقلّدين وصاغها بطريقته الخاصة لا نتحمّل نحن مسؤولية عمله هذا. إن مرئياتنا التي نتحمّل مسؤوليتها هي ما تبثّه قناة (المرجعية) ومكاتب الوكلاء كما جاء في بيان المكتب.
 
وسألتكم عن ولاية الفقيه.. قلتم أنكم سبقتم غيركم في إثباتها وبيان أدلتها الفقهية.. فليراجعوا كتابنا (السياسة في الإسلام) وتاريخ تأليفه قبل أربعين عاماً بالتمام.
 
وسألتكم عن المراجع الآخرين، فقلتم ندعو محبّينا إلى احترامهم.. وها هم يروني كيف أحضر فواتحهم أمواتاً، وكيف أحترمهم أحياءاً.
 
وسألتكم عن فضائياتنا، فقلتم لابد لخطابها من تطويرٍ يجذب المزيد من الجماهير.
 
وسألتكم عن السبب من وراء الحرب على خطّكم المرجعي النزيه.. فقلتم ندفع ثمن استقلالنا في قناعاتنا وقراراتنا.
 
وسألتكم عن قلّة مواردنا المالية لإكمال مشاريعنا وتسييرها بالأفضل الممكن، فحكيتم لي قصّة من روائع ذكرياتكم قائلين: كنتُ جالساً مع شقيقي سماحة السيد محمد (أعلى الله درجاته) الذي لازلتُ معتقداً بأعلميته وكان ثالثنا صهرنا سماحة السيد محمد كاظم القزويني (رحمه الله) وجرى الحديث حول الإقتراض للمشاريع والمؤسسات ونشاط الحوزة، فقال السيد القزويني أنا لا أستطيع النوم وفي ذمّتي دَينٌ لأحد ولو فلساً.. فعلّق عليه المرحوم الأخ مازحاً: أما أنا فأنام مرتاحاً جدّاً ولا أبالي من كثرة الديون مادام الذي يسدّدها هو الإمام الحجّة (روحي فداه) أليست المشاريع في خدمته!!
 
هكذا نحن نعمل شيخنا.. نقترض ونستدين ثم تأتي الحقوق الشرعية ببركة وليّ الله الأعظم صاحب الزمان (عجّل الله فَرَجَه) فنسدّد بها القروض والديون.. ونكرّر ذات العملية ولا نتوب!! وأحياناً ترى صاحب المال يلقي اللهُ في قلبه فيتنازل عن طلبه لما يرى المشاريع الإسلامية قامت أمام عينيه، لذا كنّا ولازلنا نعتقد أن المشاريع لمّا تكون لله فإنها تدرّ على نفسها بالخير وتُكسِبُ المحسنين بالتدريج. فأنت يا شيخنا صرفتَ أربعين عاماً من عمرك في التأليف والإنتاج وتشييد المؤسسات، واصِل.. فالحياة الدنيا فرصتنا للتزوّد ولن تتكرّر، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
 
أشكركم سيّدنا المعظّم على هذه الإرشادات القيّمة وكما كنّا سنكون بها راشدين بعون الله جلّ علاه..
 
 
أخيراً.. وكما يقال “وختامه مسك”!!
 
لن أنسى يوم الخامس من شهر محرّم.. تلك الساعة التي جئتُ فيها إلى مجلس العزاء الحسيني في بيتكم الشريف لأودعكم وأنا عائد إلى البحرين.. إذ تلوتُم في أُذُني حين المعانقة هذه الآية الكريمة:
 
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)
 
وقلتم.. أوصيك أن تستلهم من هذه الآية المباركة دوافع الإستمرار والصبر الجميل، فلا تتراجع أمام الأذى بأي نوعٍ كان.. وأنت تعرف كم أدعو لك بالإسم ومنذ سنوات!!
 
سيّدي.. كلماتٌ ما أطيبها ومن مرجعٍ تقيّ القلب رحيمِ النفس.. سَمِحٍ بشوشٍ صابرٍ مُحِبّ…
 
سيّدي.. كلماتُكم نقشت معانيها العظيمة في ذرّات وجودي بصائر الطريق وجعلتني أحمل من الثقة أكبرها لمواصلة الدرب الذي رسمتموه.. فهذه إرادتي في خدمة الحق ما بقي من أيام حياتي…
 
سيّدي.. أعتذر منكم على كل تقصير، وعذري لكم على طمعي الذي طال عصاكم المبارك في الدقيقة الأخيرة من الوداع!! حيث قادني هذا “الطمع اللطيف” أن أطلب من نجلكم المبجَّل سماحة آية الله السيد حسين (حفظه الله) عصاً قديمةً لكم لم تحتاجوا إليها، فقدّم لي عصاكم التي تستخدمونها وأصرّ بالحرف قائلاً: “أنا واثقٌ أنّ الوالد يسرّه أن تأخذ هذه العصا وسنشتري له غيرها”.
لم أقبل حتى أضاف قائلاً: “شيخنا ولعلكم لا تعلموا كم الوالد يحبّكم شخصياً ويعتبركم بمثابة إبنه، فهو كثيراً ما يذكركم بالخير لمّا نجلس ويأتي ذكرُكم”.
 
هذه كلمةٌ يا سيّدي أعتزّ بها، وهي التي زادتني جرأةً فأطعتُ النجل الكريم وأخذتُ عصاكم للبركة وللذكرى…
 
ودمتم وجميع مَن يلوذ بكم سالمين بعُمرٍ مديدٍ وفي صحة وعافية وكمالها ودوام النعمة وتمامها بجاه أجدادكم الطيّبين نبيّنا محمد وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).
 
داعيكم المخلص:
 
عبدالعظيم المهتدي البحراني
14/ محرم الحرام/ 1436

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى